خمسةً وثلاثين نفراً اجتمعوا على بناء دولة

يُحكى أن خمسةً وثلاثين نفراً اجتمعوا على بناء دولة، وعندما بدأت المباحثات ...
قبل أن نكمل الحكاية
قبل أن نكمل الحكاية، علينا استحضار بعض القواعد المتعلقة بتفكير و سلوك البشر.
القاعدة الأولى (التفاوت)
الناس متفاوتون على أصعدة كثيرة؛ فهم متفاوتون على صعيد القدرات العقلية (مثلاً: تكمن عبقرية زيد في ملاحظة الفروق بينما عبقرية عمرو تكمن  في استخلاص التشابهات و القواسم المشتركة)، و على صعيد الاستيعاب (مثلاً: استيعاب زيد للسيارة فيه معاني السرعة و المغامرة، بينما استيعاب عمرو للسيارة فيه معاني الراحة و الفخامة)، و يتفاوتون على صعيد الأولويات (مثلاً: الأولوية عند زيد هي الإنجاز و الربح،
بينما الأولوية عند عمرو هي بناء العلاقات الودية، والحفاظ على المشاعر)، ويتفاوتون على صعيد الدوافع و المحفزات (مثلاً: قد يشتري زيد البوظة؛ لأنه رأى رجلاً آخر اشترى البوظة، بينما يشتري عمرو البوظة لأنه شعر بالحر).. الخ.
هذا التفاوت في تركيب الشخصية  يؤدي إلى تفاوت و فروقات في  الأفكار و الآراء  و المعتقدات – الأطروحات التي يؤمن بها الفرد – والتي تؤدي بدورها إلى فروقات في السلوك.
القاعدة الثانية (رفع الطاولة)
كلنا يعلم أن الطاولة تتألف من سطح و أرجل تحمل السطح، و بدون الأرجل التي تدعم السطح، و تحمله لن تقوم للطاولة قائمة. باستلهام آلية عمل الطاولة للدلالة على آلية من آليات عمل العقل البشري، يمكننا القول بأن الإنسان عنده أهواء و رغبات و ميول و أفكار محبذة – تمثل سطح الطاولة – و عنده ملكة تسمى عند البعض مجازاً بملكة (رفع الطاولة) يقوم من خلالها بتسخير عقله لجمع الأدلة و البراهين المؤيده لهذه الأفكار– الأدلة تمثل أرجل الطاولة –  وبذلك تتحول الأفكار المحبذه إلى معتقدات أو قيم يؤمن بها الإنسان – طاولة مرفوعة قائمة. و آلية جمع الأدلة و البراهين المؤيدة و إغفال الأدلة و البراهين المعارضة – وهي بالمناسبة، آلية لا إرادية – يسميها علماء النفس بـ (Conformation Bias ) أو (التحامل التأكيدي).
القاعدة الثالثة (التألُّه)
البشر يمتازون بصفة يسميها ابن خلدون "التألُّه" وهي أن كل إنسان – بغض النظر عن قدراته العقلية – يعتقد في نفسه الكمال، و يؤمن بأن رأيه أفضل من رأي الآخرين، ويرفض الانصياع لأحد – لأن افتراضه الكمال في نفسه يستلزم انتقاصه لغيره. و بناء عليه، لايمكن أن ينصاع الإنسان لغيره إلاّ "بالقهر"– أو سمّه إن شئت الغلبة أو السيطرة أو الإجبار– سواء كان مادياً أو معنوياً أو فيزيائياً.
لنعد الآن إلى إنشاء الدولة
...وعندما بدأت المباحثات، مارس كل واحد من الخمسة و الثلاثون طبع "التألّه"، فنتج عن ذلك عراك انتهى بقهر أحدهم للبقية – تماماً كما تنبأ ابن خلدون. عندها انقسم الخمسة والثلاثون إلى فريقين: فريق وافقت ميولهم ميول القاهر – سموا بالقاهرين– وفريق عارضت ميولهم ميول القاهر – سمّوا بالمقهورين (قاعدة التفاوت).
بعدما استتب الوضع للقاهر، ارتأى أن يضع دستوراً يدير به شؤون الدولة، طبعاً جاء الدستور موافقاً لميول و رؤى و أولويات القاهر وربعه! وبالطبع، سيطر القاهرون على وسائل الإعلام؛ فلا خطابات إلاّ لتمجيد القاهر، و لا قصائد إلاّ في مديحه، و لا نقاشات إلاّ حول إنجازاته.
مع مرور الأيام – و خصوصاً مع دخول العولمة –  طالب المقهورون بمزيد من حقوق الإنسان، و حرية التعبير، و استقلال الإعلام... بالتدريج، حصل المقهورون على مرادهم... انقسم الإعلام في الدولة إلى بوقين: بوق قاهري تحلق حوله القاهرون، و بوق مقهوري تحلّق حوله المقهورون...كل بوق جمع الأدلة و البراهين و الحجج و انتقاها ليقدمها لحزبه، وكل حزب مارس (التحامل التأكيدي)، فازداد القاهرون قاهريةً، وازداد المقهورون مقهورية... وصل التقطب بين الحزبين إلى درجة أن المقهورين بدؤوا يطعنون في الدستور – همزاً و لمزاً في البداية، ثم إفصاحاً و بوحاً في الوسط، ثم إسفافاً و قذفاً في النهاية... لم يجلس القاهرون على مقاعد المشاهدين، بل بادروا باتهام المقهورين بالعمالة و الخيانة و المناوأة، و استفهموا على وجه الإنكار:
كيف ينقلبون على الدستور الذي هو الميثاق المجتمعي الذي على أساسه أُسّست الدولة؟
تأزم الوضع حتى انفجر بدعوة المقهورين إلى الكفاح المسلح... فاز المقهورون... وضعوا دستورهم... احتكروا الإعلام.. وأعادت الدائرة دورتها...
إسقاطات تاريخية
تاريخ البشر مليء بدورات مثل دورة (دولة الخمسة والثلاثين نفراً)؛ خذ على سبيل المثال تاريخ الحرب الأهلية في أمريكا، و كيف أن تقطب الشمال و الجنوب ضد أو مع العبودية آل إلى انفجار الوضع، ثم فوز الشمال، ثم كتابتهم للدستور على شرطهم (تحريم العبودية)، ثم ها هو ذا التقطب يعود بين الجمهوريين و الديمقراطيين على قضايا عدة، و يصل إلى حد دعوات الجمهوريين إلى اغتيال فخامة الرئيس الأسود "يا عيني على الديمقراطية!"
السؤال الذي يطرح نفسه
السؤال الذي يطرح نفسه هو:
هل نحن على مشارف دورة من دورات (دولة الخمسة و الثلاثين نفراً) في ظل تفاقمات الوضع الوطني الراهن؟
وماهو السبيل إلى لملمة الشتات، ورأب الصدع؟